الوقفةُ الأولى :
(عِلَّةُ الحياة)
طالما قرأنا قوله تعالى : (
وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) لكننا لم نتأمّل بشكلٍ جاد في مدى مطابقة واقعنا لهذه الآية العظيمة ، ربما لو سألتُكِ : ما العِلَّةُ من إيجادكِ في هذه الحياة ؟ لبادرْتِ قائلةً بكل بساطة: لعبادة الله تعالى .. ، أليس كذلك ؟ ، أقول بلى هو كذلك .. ، لكنْ هذه الإجابةُ السطحيّة ليست مقصودةً في هذا المقام ، فلسنا في مدرسةٍ ولا في قاعةِ امتحان.. ، إذن ما المقصود من السؤال ؟ ، المقصود من السؤال هو استشعار أبعادِ الإجابةِ الآنفة .. ، لعبادة الله تعالى ، استشعار مقتضياتِها ، استشعار معناها الحقيقي ، استشعار الجانب العملي الواسع لمفهومِ العبادة .. ، هل يا تُرَى يَقْتَصِرُ مفهومُ العبادةِ في أذهاننا على الصلاةِ و الزكاةِ والصومِ والحج ، أم إنّ للعبادةِ مفهوماً أوسع ؟؟ ، ومَن أفصحُ وأصدقُ من القرآن ليُجِيبَ على هذا التّساؤل .. يقول الله تعالى : (
قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، لاحظي الجمع بين الصلاة والحياة ، صلاتي..ثم قال .. ومحياي ، فكلاهما للهِ رب العالمين ، فلئِن تَبَادَرَ إلى الذّهن عند ذِكْرِ العبادة.. "الصلاة" .. فلا تحْجِزِي دونها الحياةَ بأكْمَلِها .. فإنها أيضاً للهِ رب العالمين ، الصلاةُ لله ، والحياةُ لله ، بل حتّى المماتُ لله!! ، والحياة .. أختي الكريمة .. تشمل كلَّ نشاطٍ تقومين به في حياتِكِ ، حتى إماطةُ الأذى عن الطريق ، الذي بعتبِرُهُ مُعظَمُ الناس مُجرَّدَ سلوكٍ حضاريّ.. هو أيضاً لله ، أي أنّه عبادة كما صح في الحديث ، بل حتى المشاعرُ وخوالجُ القلب كلُّها عبادات يجب أن تُصْرف لله لاشريك له ، فالحبُّ والبغض ، والموالاة والمعاداة ، والخوف والرجاء ، والرغبةُ والرهبة ، والخضوعُ والتوكل .. كل هذه المشاعرِ القلبية عباداتٌ عظيمة ، وليس الصلاة والصوم فقط ، ويجب أن تكون كلُّها خالصةً لله ، ولا تتصوَّري أنّ هناك تعقيداً أو صعوبةً في هذا المفهوم أو في ممارسته ، أبداً..أبداً ..الأمر فقط يحتاجْ إلى حضور قلب ونيّة ، فمُمارسةْ هذا المفهومِ الشّامل إذاً ، هي العبادةُ بعينها ، بل إنّ العبدَ [
وأقصدْ بالعبد ، الرّجُل والمرأة على حدٍّ سَواء]العبد ، لا يكونُ عبداً حُرّاً من كلِّ قيْد ، …حُرّاً من كلِّ قيْد ،
من كلِّ قيد أقول .. ، حتى يُجَرِّدَ هذه المشاعرَ القلبيةَ للهِ وحدَه لا شريكَ له ، فلا يجمع بين المتضادّات في قلبه ولا في سلوكه ، فيزعُمُ إخلاصَ المحبةِ للهِ مثلاً ..يقول : (أنا أحبُّ الله وحده لاشريك له ، وأنا مُخلِص في حُبِّي لربّي [وإخلاصُ المحبّةِ أعظمُ عبادة] ثم بعدَ كُلِّ هذا التعبير الجازم والتأكيد على محبّةِ الله.. يُجاهِرُ بمعصيته ..!! ،
كيف؟ ، ويباهي بها .. ، ويُصِرُّ عليها..
كيف؟ ، أين إخلاصُ المحبَّةِ للهِ إذن ،
أين ؟؟ ، لأن المتعارفَ عليه .. أنّ مِن مقتضياتِ المحبّةِ الكاملةِ الخالصة .. طاعةَ المحبوب ، إذا أحببتِ بإخلاص .. ما الذي تحرصين عليه ..؟ إرضاءُ من تُحِبِّين أم إسخاطُه ؟؟ ، طاعتُه أم معصيتُه ؟؟ ، ثم بِناءً على محبّتِكِ لله .. من وماذا تحبين ؟ ، فإذا كان الجواب : لأنّي أُحِبُّ الله ، فإنّي أحبُّ ما يحبّه الله !! ، .. نقول هذا الكلام جميل ..!! لكن إذا كان في قلبِكِ مكانٌ للفسقةِ ، والعُصاةِ المجاهرين بالمعاصي ، فتحبّين المطربة الفلانية ، وتُعجَبين بالمطرب أو الممثّل الفلاني ، فينبغي مراجعةُ كلامِكِ السابق ، فالتناقض ، والازدواجيّة بين ضِدّين أمْرٌ مرفوض ، فإنّ المُحِبَّ الصّادق ، لا يَخلِطُ في محبّتِه بين حبيبِهِ ومن يُسخِطُ حبيبَه ، فالعبرة إذن ليست في محبّةِ اللهِ عزّ وجلّ .. ، فكلٌّ يدّعي محبّةَ الله ، ولكنّ العبرةَ في محبَّةِ ما يُحِبُّ اللهُ جلّ وعلا من الأعمال ، والهيئات[ أي الأشكال] ، والأقوال ، ... ولذلك امتحن الله الناسَ رجالاً ونساءً بهذه العبادةِ العُظمى قائلاً : (
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ، فالاتباع ، والخضوعُ لأمر اللهِ ورسولِه ، هو برهانُ المحبّة ، وقال تعالى: (
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، وواللهِ يا أختي .. إنّ السعادةَ الحقيقة ، لا السعادةَ الوهميةَ الآنيَّةَ الخادعة..لا .. ، هذه يشترك فيها معظمُ الناس ، العصاة ، الفجرة ، بل حتّى الكُفّار ، يضحكون مِلءَ أفواههم اليوم ، ويحسَبون أنّهم سُعداء .. ثم يقطِّعُهُم البكاءُ من الغد !! ، لا ..لا.. ، أنا أتكلّم عن شيءٍ آخر ، أنا أتكلّم عن السعادة الحقيقية ، سعادةِ الإيمان ، السعادة التي تجدينها عندما تنفرِدِين بنفسِك ، ما معكِ أحدٌ إلاّ الله .. ، فَتَشْعُرينَ بسعادةِ مناجاتِه والأُنسِ به تبارك في عُلاه ، ولا تجدين ما يُنَغِّصُ عليكِ هذا الأُنسَ والانشراح من أنواعِ المعاصي ، ويتحقّقُ اتّصالٌ مُباشر بينَ قلبِكِ وبين من تُحبِّين بكُلِّ صدقٍ وإخلاص ، اتّصالٌ مباشرٌ بين قلبِكِ وبين الله ، هذه هي السّعادةُ التي أعنيها ، السعادة الممتدّة عبر هذه الحياةِ القصيرة إلى ما بَعْدَ هذه الحياة ، السعادة الأزليّة التي لا تنتهي ، لا تنتهي ، فهي معكِ حيثُما كُنتِ ، وحيثُما تقلّبَ بِكِ الزّمان ، في السّرّاءِ والضّرّاء ، في الغِنى والفقر ، في الصِحّة والمرَض ، إنّه السّرور الذي تجدينه في الحياة ، وأثناءَ الاحتضارِ عند توديعِ الحياة ، وبعد الموتِ وأنتِ لِوَحدِكِ في القبر ، وعند النشور في يومِ العرْضِ الأكبر ، يومِ الحساب ، كما قال اللهُ تعالى مُبشّراً : (
فأمّا من أوتي كتابه بيمينِه فسوف يُحاسَب حساباً يسيراً وينقلِبُ إلى أهلِهِ مسروراً) هذا السرور وهذه السعادة .. ، لا تتحقق إلاّ بتجريدِ العبوديّةِ كلِّها لله تعالى كما ذكَرْتُ آنِفاً ، فالحياةُ الطّيّبة ، التي هي حياةُ الطُّمأنينة ، وراحةِ البال ، وراحةِ الضمير ، لا يُمكِن أن تتحقق إلاّ بتجريد المشاعرِ والأفعالِ لله تعالى ، كما قال تعالى : (
من عمل صالحاً ممن ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ، نعم .. حياةً طيبةً في الدنيا ، و حياةً أطيبَ منها في الآخرة ، والآن أعود وأسأل .. هل تصوّرتِ هذا المفهومَ الواسعَ للعبادة لمّا أجبْتِ على السؤالِ المتقدِّم ، لمّا سألتُكِ فقُلْتُ: ما العِلَّةُ من إيجادِك ؟ فقلتِ : عبادةَ الله ، هل تصوّرتِ هذا المفهومَ الواسعَ للعبادة لمّا أجبْتِ على السؤال ؟ ، فإن كانت الإجابة ( لا..لم أتصوّر هذا المفهومَ الواسع ) فيلْزَمُكِ استدراكُ الخلل ، واستكمالُ مفهوم العبادة بشكلٍ شاملٍ وعمليّ ، ومحسوس ، راجعي أختي ..راجعي ، راجعي مدى مطابقةِ سلوكيّاتِك لما يحتويهِ قلبُكِ من مشاعرِ العبادة ، عسى اللهُ أن يُعِينَكِ ويأخُذَ بيدِكِ ، .. وأمّا إن كانت الإجابة ( نعم .. كنت أتصور هذا المفهوم ) ..فالحمد لله إذن ، ولْنَنْطلِقْ في طريقنا نحو التطبيق العملي .. وهو السلوك ..