معركة نهاوند
وهي وقعة عظيمة جدا لها شأن رفيع ونبأ عجيب وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح
قال ابن إسحق والواقدي كانت وقعة نهاوند في سنة إحدى وعشرين وقال سيف كانت في سنة سبع عشرة وقيل في سنة تسع عشرة والله أعلم وإنما ساق أبو جعفر بن جرير قصتها في هذه السنة فتبعناه في ذلك
وكان الذي هاج هذه الوقعة أن المسلمين لما افتتحوا الأهواز ومنعوا جيش العلاء من أيديهم واستولوا على دار الملك القديم من اصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثا وهي المدائن وأخذ تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة فحموا عند ذلك واستجاشهم يزدجر الذي تقهقر من بلد إلى بلد حتى صار إلى اصبهان مبعدا طريدا لكنه في أسرة من قومه وأهله وماله وكتب إلى ناحية نهاوند وما ولاها من الجبال والبلدان فتجمعوا وتراسلوا حتى كمل لهم من الجنود مالم يجتمع لهم قبل ذلك( مائة وخمسين ألفا) فبعث سعد إلى عمر يعلمه بذلك فتجمعوا قرب نهاوند فبعث عمر بكتاب جاء فيه.
(بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن سلام عليك فاني احمد إليك الله الذي لا اله إلا هو وأما بعد فانه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة وقد جمعوا لكم بمدينة نهاوند فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم ولا تدخلهم غيضة فان رجلا من المسلمين أحب إلى من مائة ألف دينار والسلام عليك فسر في وجهك ذلك حتى تأتي ماه فاني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم واستنصروا وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله)
وكتب عمر إلى نائب الكوفة عبد الله بن عبدا لله أن يعين جيشا ويبعثهم إلى نهاوند وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن فان قتل النعمان فحذيفة فان قتل فنعيم بن مقرن وولي السائب بن الأقرع قسم الغنائم فسار حذيفة في جيش كثيف نحو النعمان ابن مقرن ليوافوه بماه وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق فكل جيش المسلمين في (ثلاثين ألفا) من المقاتلة وبعث النعمان بن مقرن الأمير بين يديه طليعة ثلاثة وهم طليحة وعمرو بن معدي كرب الزبيدي وعمرو بن أبي سلمة ويقال له عمرو بني ثبي أيضا ليكشفوا له خبر القوم وما هم عليه فسارت الطليعة يوما وليلة فرجع عمرو بن ثبي ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال لم نر أحدا وخفت أن يؤخذ علينا الطريق ونفذ طليحة ولم يحفل برجوعهما فسار بعد ذلك نحوا من بضعة عشر فرسخا حتى انتهى إلى نهاوند ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحب ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك وأنه ليس بينه وبين نهاوند فلما تراءا الجمعان كبر النعمان وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات فزلزلت الأعاجم ورعبوا من ذلك رعبا شديدا ( واسمع إلى هذه التربية المحمدية والشجاعة الفائقة للصحابي الجليل المغيرة بن شعبه ) وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلا من المسلمين ليكلمه فذهب إليه المغيرة بن شعبة فذكر من عظم ما رأى عليه من لبسه ومجلسه وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم وأنهم كانوا أطول الناس جوعا واقلهم دار وقدرا وقال ما يمنع هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا مجا من جيفكم فان تذهبوا نخل عنكم وان تأبوا نزركم مصارعكم قال فتشهدت وحمد الله وقلت لقد كنا أسوأ حالا مما ذكرت حتى بعث الله رسوله فوعدنا النصر في الدنيا والخير في الآخرة وما زلنا نتعرف من ربنا النصر منذ بعث الله رسوله إلينا وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم اونقتل بأرضكم .
وجاءت اللحظة الحاسمة وبدأت المعركة
فلما حان الزوال صلى بالمسلمين ثم ركب برذونا له احوي قريبا من الأرض فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات ويقدم إلى المسلمين انه يكبر الأولى فيتأهب الناس للحملة ويكبر الثانية فلا يبقى لأحد أهبة ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة ثم رجع إلى موقفه وتعبت الفرس تعبئة عظيمة واصطفوا صفوفا هائلة في عدد وعدد لم ير مثله وقد تغلغل كثير منهم بعضهم في بعض والقوا حسك الحديد وراء ظهورهم حتى لايمكنهم الهرب ولا الفرار ولا التحيز ثم أن النعمان بن مقرن رضي الله عنه كبر الأولى وهز الراية فتأهب الناس للحملة ثم كبر الثانية وهز الراية فتأهبوا أيضا ثم كبر الثالثة وحمل الناس على المشركين وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس كانقضاض العقاب على الفريسة حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة ولا سمع المسامعون بوقعة مثلها قتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبق وجه الأرض دما بحيث أن الدواب كانت تطبع فيه حتى قيل أن الأمير النعمان بن مقرن زلق به حصانة في ذلك الدم فوقع وجاءه سهم في خاصرته فقتله وأخفى موته ودفع الراية إلى حذيفة بن اليمان فأقام حذيفة أخاه نعيما مكانه وأمر بكتم موته حتى ينفصل الحال لئلا ينهزم الناس فلما اظلم الليل انهزم المشركون مدبرين وتبعهم المسلمون وكان الكفار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقا فلما انهزموا وقعوا في الخندق وفي تلك الأودية نحو مائة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشر كثير نحو مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة ولم يفلت منهم إلا الشريد وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة فانفلت وانهزم
*ثم جاء دور القائد البطل الذي لم يفل له سيف ولم يهزم له جند خالد بن الوليد وكتب بكتابين أحدهم للعامة والأخر لملوك فارس. واستشعر أخي الحبيب معنى العزة والفخر من بين تلك السطور التي وإن كتبت بحروف من ذهب لا توفى حقها فهي عزة الإسلام والمسلمين (فقال لرجل: ما اسمك قال: مُرّة قال: خذ هذا الكتاب فأت به أهل فارس لعل اللهّ أن يُمِرَّ عليهم غيشهم وقال لآخر: ما اسمك قال: هرقيل قال: خذ هذا الكتاب وقال: اللهم أرهق نفوسهم وكان في أحد الكتابين
الكتاب الأول: بسم اللّه الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس أما بعد فالحمد للّه الذي حلّ نظامكم ووهَن كيدكم وفرق كلمتكم ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرًا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ".
وكان في الكتاب الآخر: " بسم اللهّ الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس أما بعد فالحمد لله الذي فرق كلمتكم وفلّ حدّكم وكسر شوكتكم فاسلموا تسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الخمر ".
بهذه الكلمات الخالدة أختم معركة نهاوند ولعل الله أن يجعل لهذه الكلمات الأثر البليغ في نفوسنا
هذا ملخص ما ذكره ابن كثير في كتابه البداية والنهاية الجزء السابع