فصل النجاسات
والنجاسات جمع نجاسة ، وهي كل شئ يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه ، ويغسلون الثياب إذا أصابها كالعذرة والبول .
هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية كما لا يخفى على من له إشتغال بالأدلة الشرعية ، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة ، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال *
أما الغائط فكما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور وفي لفظ إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب رواهما أبو داود رح وابن السكن والحاكم والبيهقي ، وقد اختلف فيه على الأوزاعي ، وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما وقد إختلف في وصله وإرساله ، ورجح أبو حاتم في العلل الموصول . وأخرج أهل السنن عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ يطهره ما بعده وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه ، وكذلك عن إمرأة من بني عبدالأشهل عند البيهقي أيضاً. فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يخرجه عن كونه نجساً بالضرورة . إذ إختلاف وجه التطهير لا يخرج النجس عن كونه نجساً ، وأما التخفيف في تطهير البول فكما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يراق على بول الأعرابي ذنوب من ماء وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما *
وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال فلم يحصل الإتفاق على شئ في شأنها والأدلة مختلفة ، فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل . فإن ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل ، ومن ذلك حديث لا بأس ببول ما يؤكل لحمه وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر رضي الله عنه والبراء رضي الله عنه ، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة ، وورد ما يدل على نجاسة الروث ما أخرجه البخاري وغيره أنه قال صلى الله عليه وسلم في الروثة : إنها ركس والركس النجس ، وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون في الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في رواية إنها ركس إنها روثة حمار *
ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي ، وحديث الروثة لا يستلزم التعميم ، وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الإعتبار لأنه من رواية ثابت بن حماد بن علي بن زيد بن جدعان ، والأول مجمع على تركه ، والثاني مجمع على ضعفه . فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم . واحتجوا بإذنه صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرابض الغنم ، وبإذنه بشرب أبوال الإبل وهما صحيحان ، ولاحكم للمعارضة بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلي فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها ، كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة فإن مثل ذلك لا يسوغ مباشرة ماليس بطاهر *
فالحق الحقيق بالقبول الحكم بنجاسة ماثبتت نجاسته بالضرورة الدينية وهو بول الآدمي وغائطه ، وأما ماعداهما فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته كالروثة وجب الحكم بذلك من دون الحاق ، وإن لم يرد فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشئ نجساً من دون دليل ، فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة ، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى ولا يحل إلا بعد قيام الحجة . قال الماتن رح تعالى : ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شئ أنه ظاهر ، لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام والأصل عدم ذلك ، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك ، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام ، فالكل أما من التقول على الله تعالى بما لم يقل ، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة .
إلا الذكر الرضيع لحديث يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام أخرجه أبو داود رح تعالى والنسائى رح تعالى وابن ماجة والبزار وابن خزيمة من حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الحاكم . وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل وأخرجه أيضاً ابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً ، وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خريمة وابن حبان والطبراني من حديث أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت : بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره حتى أغسله فقال : إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله وفي صحيح البخاري من حديث عائشة قالت : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء وفي صحيح مسلم عنها قالت : كان يؤتي بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله فهذا تصريح بأنه لم يغسله فيكون إتباعه الماء مجرد النضح كما وقع في الحديثين الآخرين ، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل ، وبالجملة : فالتصريح منه صلى الله عليه وسلم بالقول بما هو الواجب في ذلك هو الأولى بالإتباع لكونه كلاماً مع أمته فلا يعارضه ما وقع من فعله على فرض أنه مخالف للقول .
وقد ذهب إلى الإكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة منهم علي وأم سلمة والثوري والأوزاعي والنخعي وداود وابن وهب وعطاء والحسن الزهري وأحمد وإسحق ومالك في رواية وهذا هو الحق الذي لامحيص عنه ، وذهب بعض أهل العلم - وقد حكي عن مالك والشافعي والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية . وذهب الحنفية رحمهم الله وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل ، وهذا المذهب كالذي قبله في مخالفة الأدلة ، وقد إستدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم ، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام ، وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الإعتبار ، وقد شدد ابن حزم فقال : إنه يرش من بول الذكر أي ذكر كان ، وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً بلفظ بول الغلام الرضيع ينضح ، والواجب حمل المطلق على المقيد .
قال في الحجة : قد أخذت بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس . قلت : الشافعي رح تعالى : ينضح من بول الغلام ما لم يطعم ، ويغسل من بول الجارية . فسره البغوي بأن بول الصبي نجس غير أنه يكتفي فيه بالرش وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه فيطهر من غير مرس ولا دلك ، وقال أبو حنيفة رح تعالى : يغسل منهما سواء ، ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة رح تعالى أن المراد بالنضح الغسل الخفيف وبالغسل المرس والدلك . وأصل المسألة أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها ، وبول الجارية أغلظ وأنتن فإحتيج فيه إلى زيادة المرس . كذا في المسوى *
وأقول : أحاديث التخصيص هنها صحيحة لا شك في ذلك ولا ريب . فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة ، وهذا كلام عاطل الجيد عن الفائدة بمرة ، لأن هذا المعنى قد استفيد من العام . ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة ، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب بما يلحقه بكلام من هو من العي بمنزلة توقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة . وقد ذكر في النهاية ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل ، قلت : قد يرد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام ، وههنا وقع مقابلاً للغسل فكيف يصح تفسيره به ، وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش ، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره ، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب وإلا كان الكلام حشواً ، وإن كان إستعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول ، فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزية على غيره من علماء أمته ، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه ، وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الاسلاف جعلوه كأسلافهم ، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الأنصاف ، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم ، فيردون كلامه صلى الله عليه وسلم إلى كلامهم ،فإن وافقهم فيها ونعمت ، وان لم يوافقهم فالقول ما قالت حذام فإن أنكرت هذا فهات ابن لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات المتعسفة ورد أحاديث التخصيص الصحيحة مع تسليمهم ان الخاص مقدم على العام ، وإنه يبني العام على الخاص وهذا مشتهر في الأصول وإشتهار النهار .