سلسله شرح الفقه كما جاء فى كتاب الروضه النديه
كتاب الطهارة
باب في بيان أن الماء طاهر ومطهر
هذا الباب قد اشتمل على مسائل :
الأولى الماء طاهر ومطهر ولا خلاف في ذلك ، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة ، وكما دل الدليل على كونه طاهراً مطهراً وقام على ذلك الإجماع ، كذلك يدل على ذلك الأصل ، والظاهر ، والبراءة ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع ، وكذلك الظهور يفيد ذلك ، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة .
لا يخرجه عن الوصفين أي عن وصف كونه طاهراً وعن وصفه كونه مطهراً إلا ماغير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات .
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب ، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ماغير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها ، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها .
والدليل عليه ما أخرجه أحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم ، وصححه أيضاً يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد قال : قيل يارسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الماء طهور لا ينجسه شئ وقد أعله ابن القطان بإختلاف الرواة في إسم الراوي له عن أبي سعيد وإسم أبيه وليس ذلك بعلة ، وقد إختلف في أسماء كثير من الصحابة والتابعين على أقوال ، ولم يكن ذلك موجباً للجهالة على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال : وله طريق أحسن من هذه ، ثم ساقها عن أبي سعيد وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة .
وله شواهد منها حديث سهل بن سعد عند الدارقطني ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خريمة وابن حبان ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلي والبزار وابن السكن كلها بنحو حديث أبي سعيد ، وأخرجه بزيادة الإستثناء الدارقطني من حديث ثوبان بلفظ الماء طهور لاينجسه شئ إلا ماغلب على ريحه أو لونه أو طعمه وأخرجه أيضاً مع الزيادة ابن ماجه والطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ أن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه وفي إسنادهما من لا يحتج به ، وقد إتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة ، لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها كما نقله ابن المنذر وابن الملقن في البدر المنير والمهدي في البحر ، فمن كان يقول بحجيه الإجماع كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع ، ومن كان لا يقول بحجية الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة ، لكونها قد صارت مما أجمع على معناها وتلقى بالقبول ، فالإستدلال بها لا بالإجماع * وعن الثاني ما أخرجه عن إسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة *
هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب ، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شئ من الأمور التي تخالطه ، فإن خالطة شئ أوجب إضافته إليه ، كما يقال ماء ورد ونحوه ، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد مثلاً هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقول سبحانه : ماء طهوراً وفي السنة المطهرة بقول صلى الله عليه وسلم الماء طهور فخرج بذلك عن كونه مطهراً ، ولم يخرج به عن كونه طاهراً ، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر ، وإجتماع الطاهرين لا يوجب خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الإجتماع *
قال في حجة الله البالغة : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه إسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي ، نعم إزالة الخبث به محتمل بل هو الراجح *
وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر ، والعشر في العشر ، والماء الجاري وليس في كل ذلك حديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم البتة ، وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي ، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الفأرة ، والنخعي والشعبي في نحو السنور ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة ، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى ، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء ، لا من جهة الوجوب الشرعي ، كما ذكر في كتب المالكية ودون نفي هذا الإحتمال خرط القتاد .
وبالجملة : فليس في هذا الباب شئ يعتد به ويجب العمل عليه . وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة ، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الإرتفاقات ، وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى ، ثم لا ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصاً جلياً ، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم ، ولا حديث واحد فيه والله أعلم إنتهى . قلت وقد أطال الحافظ ابن حجر رح تعالى في تخريج حديث القلتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً ، لفظاً ومعنى في كتابه تلخيص الحبير في تخريج أخبار الرافعي الكبير اطالة حسنة فليرجع إليه .
ولا فرق بين قليل وكثير هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب ، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الإختلاف في ذلك بين أهل العلم بعد إجماعهم على أن ماغيرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر ، فقيل : أن الكثير مابلغ قلتين والقليل ما كان دونهما ، لما أخرجه أحمد وأهل السنن والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي لفظ أحمد لم ينجسه شئ وفي لفظ لأبي داود لم ينجس وأخرجه بهذا اللفظ ابن حبان والحاكم ، وقال ابن منده : إسناد حديث القلتين على شرط مسلم إنتهى . ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه كما هو مبين في مواطنه ، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب ، وقد دل هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، وإذا كان دون القلتين فقد يحمل الخبث ، ولكنه كما قيد حديث الماء طهور لا ينجسه شئ بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها كذلك يقيد حديث القلتين بها فيقال : إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة ، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس ، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها ، وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتاً ، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص ، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها لا الخبث الذي لم يغير .
وحاصله : أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها ، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك ، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء ، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له ، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين ! كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً ، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام فقال في الأول : لا ينجسه شئ وقال في الثاني أيضاً كما في تلك الرواية : لم ينجسه شئ فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر ، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام ، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها فإنها وردت بصيغة الإستثناء من ذلك الحديث فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد ، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما على القول الراجح في الأصول وهو : أنه يبني العام على الخاص مطلقاً ، فتقرر بهذا أنه لامنافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث ، بل يقال فيه : إن مادون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية ، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة *
وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين والكثير بهما الشافعي رح وأصحابه رحمهم الله ، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن إستعمال النجاسة باستعماله والكثير بما لا يظن إستعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد ، وقد روي أيضاً عن الشافعية رحمهم الله والحنفية رحمهم الله وأحمد بن حنبل رح . ولا أدري هل تصح هذه الرواية أم لا ، فمذاهب هؤلاء مدونة في كتب أتباعهم من أراد الوقوف عليها راجعها . واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله تعالى : والرجز فاهجر ، وبخبر الإستيقاظ ، وخبر الولوغ ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم و هى جميعها في الصحيح ، ولكنها لاتدل على المطلوب ، ولو فرضنا أن لشئ منها دلالة بوجه ما كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدم . لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع ، على أنه لا يبعد أن يقال : إن العاقل لا يظن إستعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء بجرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن ، ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس ، لأن المخالطة إن كانت بالجرم فالمتوضىء مستعمل لعين النجاسة ، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه *
والحاصل : أنهم إن أرادوا بقولهم إن ظن إستعمال النجاسة بإستعماله فهو القليل وإن لم يظن فهو الكثير ما هو أعم من عين النجاسة وريحها . ولونها وطعمها ، فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنة وأهل المذهب الأول اعتبروا المئنة ، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك ، فهي لا تكاد تخالف المئنة في مثل هذا الموضع ، وإن أرادوا إستعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط ، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب ، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول ، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ماغير لون الماء ، أو ريحه ، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه كما تقدم تقريره ، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم في الإجماع ، بل هو مصرح لحكاية الإجماع في البحر ، فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول ، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم تبوتاً وإنتقاء ، وحينئذ فلا مخالفة بين المذهبين ، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن إستعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند إستعمال مافيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم ، فتأمل هذا فهو مفيد بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء ، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم ، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق ويتبلد عند تشعب طرائقها كل مدقق، وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته تحريرات مختلفة لهذه العلة وأطال الكلام عليها في طيب النشر في المسائل العشر *
وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث إستفت قلبك وإن أفتاك المفتون ومثل حديث دع مايريبك إلى ما لا يريبك ولا يستفاد منهما . إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى ، وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً . وقد عرفت أن أدلة المذهب الأولى على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني ، فأبعاد النجعة إلى مثل حديث إستفت قلبك و دع مايريبك ليس كما ينبغي . فإن قيل : إنه قصد الإستدلال على مجر العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة فيقال : أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به ، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والإستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد . وقد حكي في تحديد الماء الكثير أقوال منها : أن الكثير هو المستبحر ، وقيل : ما إذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر ، وقيل : ماكان مساحة مكانه كذا ، وقيل : غير ذلك . وهذه الأقول ليس عليها أثارة من علم بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة .
وما فوق القلتين ومادونهما قدر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدرهما بخمس قرب ، وفسرها أصحابه بخمسمائة رطل . وقدره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر ، والعشر في العشر كذا في المسوى شرح الموطأ . وقال في حجة الله البالغة : ومن لم يقل بالقلتين إضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير ، كالمالكية ، أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل انتهى . ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه . وإن شئت زيادة التفصيل فعليك بالفتح الرباني في فتاوى الشوكاني ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل .
ومتحرك وساكن وجه ذلك أن سكونه وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به حاله ، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه . وقد دلت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن مادام ساكناً ، كحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقالوا يا أبا هريرة : كيف يفعل قال : يتناوله تناولاً وفي لفظ لأحمد وأبي داود لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة وفي لفظ للبخاري لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه وفي لفظ للترمذي ثم يتوضأ منه وغير هذه الرويات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده ، والنهي عن الإغتسال فيه على إنفراده ، والنهي عن مجموع الأمرين . ولا يصح أن يقال : إن روايتي الإنفراد مقيدتان بالإجتماع ، لأن البول في الماء على إنفراده لا يجوز ، فأفاد هذا أن الإغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز ، فمن لم يجد إلا ماء ساكناً وأراد أن يتطهر منه فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً ثم يتوضأ منه ، وأما أبو هريرة فقد حمل النهي على الإنغماس في الماء الدائم ، ولهذا لما سئل كيف يفعل قال : يتناوله تناولاً ، ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء ، فإنه لا انغماس فيه بل هو يتناوله تناولاً من الإبتداء فالأولى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة ثم يتطهر به . وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن ومنهم من قال : إن هذه الروايات محمولة على الكراهة فقط ، ولا وجه لذلك ، وقد قيل إن المستبحر مخصوص من هذا بالإجماع ، والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به مادام ساكناً ، فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي وهو كونه مطهراً ، وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب .
ومستعمل وغير مستعمل هذه المسألة السادسة من مسائل الباب ، وقد وقع الإختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات هل يخرج بذلك عن كونه مطهراً أم لا ؟ فحكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبي حنيفة في رواية عنه ، أن الماء المستعمل غير مطهر ، واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الإغتسال في الماء الدائم ولا دلالة له على ذلك ، لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء مستعملاً بل كونه ساكناً وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الإستعمال ، واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة ولاتنحصر علة ذلك في الإستعمال كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، فلا يتم الإستدلال بذلك لإحتماله ولو كانت العلة الإستعمال لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس ، بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل . ومن جملة ما استدلوا به : أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بماء ساقط منه ، وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية فعلى هذا المستدل أن يوضح هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم والأول باطل والثاني لا يدري من هو فليبين لنا من هو على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع ، وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع مثل : حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الإستقياظ قبل إدخالها الإناء ونحوه ، فالحق أن المستعمل طاهر ومطهر عملاً بالأصل وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف ، ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر ، ونقله غيره عن الحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحداى الرويات عن الثلاثة المتأخرين ، والحق أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد إستعماله للطهارة إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه ، وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه صلى الله عليه وسلم فيأخذونه ويتبركون به ، والتبرك به يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك ، والحاصل :
والحاصل : أن إخراج ما جعله الماء طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل